التأسيس لهوية عراقية جامعة ضرورة لبناء الدولة

التأسيس لهوية عراقية جامعة ضرورة لبناء الدولة

الاستاذ المساعد الدكتور قيس ناصر

مركز دراسات البصرة والخليج العربي

 

     إن صورة العراق ما بعد 2003م, تمثلت من خلال الجماعات(المكونات), وفي الوقت نفسه, لا توجد جماعة يمكنها تمثيل الدولة العراقية على وفق هويتها فحسب, وفي المقابل من هذه الرؤية التي تقول بالاعتراف بأن العراق يحتوي على جماعات عديدة, هناك من يتهم هذا القول, بأنه يشتغل على نظرة تجزيئية, وتقسيمية, وتفتيتية, تختزل العراق إلى هويات متعددة, وليست هوية شمولية عراقية في دولة موحدة, وتماهياً مع هذه الرؤية هل تعود الدولة العراقية إلى نموذج ماقبل 2003م ومشكلاته الإقصائية وتشكّله على وفق رؤية جماعة واحدة؟ أم هل تشتغل على وفق القول بالتعدد الذي أنتج التشظي في الدولة العراقية مابعد 2003م؟ إذ فُهم التعدُد إنه محاصصة أو تقاسم لثروات الدولة من منظور جماعاتي .

    إن التفكير بتشكيل هوية عراقية جامعة يعني إعادة التفكير بفهم عملية بناء الدولة بشكل عام, ومن ثمّ, هي عملية تصحيح لمفاهيم, فقوة الدولة لا تعني أن يكون لها هوية واحدة مفروضة على الجميع من جماعة مهيمنة, واستقرار الدولة لا يعني خضوع الأقلية للأغلبية, وغيرها من المفاهيم التي بحاجة إلى إعادة تفكير.

    إن عملية التأسيس لهوية عراقية جامعة, تفترض أن يخوضها مجموعة من الباحثين من اختصاصات مختلفة, وذلك لأن الحكومات المعاصرة- التي تحمل تفكيراً معاصراً- لا تشتغل على رؤية لباحث واحد, بل تشتغل على وفق مشاريع بحثية مُقدمة من مجموعة باحثين, وذلك لتشخيص الواقع أولاً والاتفاق على تقديم المعالجة ثانياً. والمقابل من هذا كله, هناك العديد من الاشكاليات التي ستواجه الباحثون, وتتمثل تلك الاشكاليات بما يأتي:

    الإشكالية الأولى/ سيادة الأنموذج التبسيطي الذي يروج له مجموعة من الباحثين والمثقفين والسياسيين والمتمثل بأن الدولة لها هوية واحدة هي هوية الدولة ذاتها والمرتبطة بتسميتها, ومن ثم فإن أي بحث يقول بوجود عدة هويات ثقافية موجودة يُتهم بتجزئة هذه الدولة وتفتيتها .

    الإشكالية الثانية/ تتعلق بفهم الهوية ذاتها, فإن تم تجاوز الإشكالية الأولى وتم الاتفاق على وجود تعدد ثقافي معترف به من خلال تشخيص وجود جماعات متعددة, سيظهر سؤال إشكالي يتعلق بالهوية الفرعية والهوية الرئيسة, ويتمثل بالسؤال الآتي: من الذي يحدد طبيعة الهوية سواء أكانت فرعية أم رئيسة؟ وهنا الهوية الرئيسة هوية الدولة الجامعة المؤكدة حضور كل الهويات الثقافية ضمن حدودها, والهوية الفرعية هي هوية الجماعة الثقافية, ومع وجود تعصب قوي لهوية الجماعة التي يفترض أن تكون فرعية, إلا أن المنتمين إليها يجعلوا منها هوية رئيسة, وهذا الأمر سيعود بالبحث إلى نقطة البداية, لأن هذه الرؤية تؤسس لدولة أمة وليس لدولة متعددة  .

   الإشكالية الثالثة/ هناك من يفهم الدولة المتعددة من خلال التعريف بالجماعات الثقافية فحسب, وهذا الاشتغال يقع ضمن القول بأن المجتمع يحتوي تنوعاً ثقافياً, ولا ينتمي إلى سياسة الاعتراف بالآخر, بقدر ماهو تعارف بين الجماعات, مع التأكيد بأن التعارف يمثل الاعتراف في حال وجود الحوار .

    إن مسألة بناء الدولة اليوم ترتبط بإعادة بناء مؤسساتها لتلائم المتغيرات الحاصلة, التي منها التعدد الثقافي, وهذا لا يعني عملية تأسيس لدولة جديدة, إنما إعادة بناء لما هو كائن, سواء أكان للمؤسسات التعليمية والاعلامية أم غيرهما, وربما ينسحب الأمر إلى مؤسسات أخرى منها المؤسسات الدينية في بعض المجتمعات, التي هي مطالبة أيضاً بإعادة بناء خطابها الموجه لجمهورها, لأنها –أحياناً- تكون جزءاً من مؤسسات الدولة . 

    إن الدستور العراقي (2005م) في مادته الثالثة تضمن القول بأن العراق متعدد القوميات والأديان والمذاهب, ويشير أيضاً في مادته الرابعة إلى تعدد اللغات سواء أكانت العربية والكردية أم التركمانية والسريانية والأرمنية, وهاتان المادتان تُشيران إلى نهاية الدولة الأمة التي تُبنى وفق هوية جماعة واحدة والتأسيس إلى الدولة المتعددة واحترام الاختلاف من أجل محاربة الاقصاء الذي كان سائداً مع الحقبة السابقة. ولكن بالمقابل من هاتين المادتين الدستوريتين ومواد أخرى, فإن فهم النخب والأحزاب تمثل بتفتيت العمل الحكومي والحاقه بها على وفق استحقاق الجماعات التي تنتمي إليها, وإن عملوا على الاعتراف بالتعدد فهو من أجل المحاصصة أو من أجل الاقصاء أي لجوء جماعة إلى اقصاء حضور جماعة أخرى في العمل الحكومي. وهناك من ذهب بالقول إلى تعدد الهويات ليس من أجل ضمان حضور تلك الهويات, إنما من أجل مصالح هويته فقط, ولا يهمه سواء وجدت هوية رئيسة تشمل هذه الهويات أم لم توجد, وفي الوقت نفسه, متناسياً إن القول بحضور الهويات الفرعية يأتي بعد محاولة تشكيل هوية رئيسة, لهذا  قُدمت صورة مشوهة عن الإنموذج الذي عمل فيه في العراق على وفق الهويات المتعددة .

    إن تأكيد الهوية الثقافية لا يعمل على تشظي المجتمع, إنما يسعى لأنصاف أفراده لأنه يعمل على ايجاد حالة من التنافس بين الجماعات, فضلاً عن الحرية التي يوفرها لهم من خلال تعدد الخيارات المطروحة أمامهم, التي تساهم بشكل فعال في تشكيل هوياتهم, ومن ثم تكون لهم هويتان: هوية رئيسة وهي هوية (الدولة), أما الهوية الثانية فهي الهوية الفرعية, التي تشمل الهوية الثقافية للجماعة, وهذا الأمر سيمنع الأقليات من المطالبة بالانفصال عن الأغلبية, لأنهم سيحصلون ويتمتعون بحقوقهم.

    ومما يمكن ملاحظته إن الحكومة ينبغي أن تعمل للجميع من دون هوية ثقافية تؤيد من خلالها جماعة على حساب جماعة أخرى, والعمل على رفض سياسة الدولة الأمة, وتأسيس لفهم المساواة على أنها للجميع مع الحفاظ على الهوية الثقافية .

    في العراق قد فشل إنموذج الدولة الأمة ما قبل عام 2003م أما مع أنموذج الدولة المتعددة مابعد عام 2003م, فقد تم محاولة تطبيقه بطريقة مشوهة. لذا حين يتم الحديث عن دولة متعددة ينبغي الاشتغال على التأسيس لهوية عراقية جامعة, على وفق ما يأتي:-

1- منع  هيمنة هوية جماعة واحدة تُقصي الهويات الأخرى .

2- منع هيمنة لغة واحدة في التعاملات الرسمية, وعادة ما تكون هذه اللغة, هي لغة الجماعة المهيمنة, ولعل هذا الأمر قد تم تجاوزه عبر الاعتراف باللغات العربية والكردية والتركمانية وغيرها .

3-التصدي لتصحيح النظام التعليمي الالزامي, الذي يقدم منهاجاً يركز على تعليم لغة وأدب وتاريخ الجماعة المهيمنة .

4- عدم إدارة وسائل الأعلام على وفق رؤية الجماعة المسيطرة .

5- مراعاة التعددية في تبني الرموز والاحتفاء بالأبطال والثقافات, وينعكس ذلك في اختيار تسمية الشوارع والأبنية والمؤسسات العامة, وما إلى ذلك .

7-الدولة ليست ملكاً لجماعة دون جماعة أخرى, إنما تمثل وتعمل للجميع .

    يفرض المشهد العراقي إعادة التفكير بمسألة الهوية من دون انفعال, ولاسيما إن المرحلة الفكرية التي ننتمي إليها تهتم بإعادة تشكيل الهوية باستمرار نتيجة للمتغيرات التي تمر بها الدول, وفي العراق مابعد 2003م, كما تم ذكره سابقاً, قد حصل فيه انتقال بشكل مفاجئ من سيادة الهوية الواحدة إلى الهويات المتعددة, مما سبب ارباكاً لدى الفرد العراقي الذي اعتاد على هوية واحدة متخيلة .

    وفي اطار الحديث من خلال الفرضية المتمثلة في الدستور العراقي 2005م, إن العراق دولة متعددة الهويات, فيفترض تقديم أدوات أو منهج لتحقيق هذه الفرضية, فضلاً عن التصدي لمن يحاول استثمارها لتمزيق الوحدة غير المتحققة .

    ويمكن القول بأن المواطنة ممارسة وتدريب, وتعمل على تنمية الانتماء الى الهوية (الرئيسة) العراقية مع الحفاظ على الهوية الفرعية, وأن يتكون لدى المواطن شعور بالولاء للهوية الرئيسة, من خلال بناء مواطنة تعمل على ايجاد الفضائل المدنية, وأن تتحرك الهويات الفرعية في اطار حركة وفاعلية الهوية الرئيسة من خلال برامج تدريبية يجري العمل بها وفق برمجة مركزية خاضعة لسلطة الهوية الرئيسة لتنمية الوعي بالهوية الفرعية على وفق منظور الهوية الرئيسة. وبناءً على التعدد الموجود من الهويات الفرعية, ولاسيما إن فهم الهوية المعاصر يتمثل بجعلها مظهراً وليس جوهراً أي بالإمكان تشكيلها على وفق أي متغير يحصل. وهناك تفاصيل متعلقة بالموضوع, مثل المناهج الدراسية, قنوات الاعلام الحكومية, العطل الرسمية, الرموز الوطنية, والتي يحددها مختصون من مجالات معرفية يمتازون بدقة التشخيص والرغبة في انجاح المشروع .