التسامح وقبول الآخر في القران الكريم
أ.م.د. محسن مشكل فهد الحجاج
مركز دراسات البصرة والخليج العربي
كثُرَ الحديث في عصرِنا الراهن عن الآخر في الخطابِ السياسي والفكري بل تحوّل إلى موضوعة العصر على صعيدِ السجال الثقافي بين مختلف التيارات الدينية والفكرية والفلسفية بل إنها المقولة التي تسيطر على اهتمامات الحياة الفكرية العالمية ، فهناك كلام طويل ومعقّد ومتشعب عن الآخر ، الآخر المطروح في هذه السجالات والندوات هو الآخر في الهوية والآخر في الحمولة الإيديولوجية والآخر في الدين والآخر في الموقف السياسي أو في الذوق الفني أو في المدرسة النقدية الأدبية أو في المنهج المعرفي أو في الجنس أو اللون، والخارطة تطول في ألفاظ الآخر والذي يقابله، هذه هي ساحة الحياة ، قوامها الآخر، فأن كل مفردة تقابلها مفردة أخرى على نحو الاختلاف الكلي أو الجزئي، إذن الاختلاف هو الذي يسود الحياة ، الاختلاف هو الأصل .
أما التسامحُ في اللغة هو التساهل ، وأستهل الشئ عده سهلاً والسهل والسهلة تراب كالرمل يجئ به الماء ومنه التسامح في الحق أو في اللفظ أي استعمال اللفظ في غير حقيقته . وبالنتيجة فالمسامحة لفظة تستبطن المنّة والكرم .
والمعنى الاصطلاحي للتسامح يأخذ بعداً آخر، فالتسامح Toleration ظهر في القرن 18 الميلادي لتفادي تداعيات الحروب بين المذاهب والأديان التي شهـــــــدتها أوربا أبان القرون الوسطى ، ويراد بالتسامح اصطلاحاً : موقفاً إيجابياً متفهماً من العقائد والأفكار يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة على أساس شرعية الآخر المختلف دينياً وسياسياً وحرية التعبير عن آراءئه وعقيدته
وقد عرّفت اليونسكو التسامح بأنه لا يعني التسامح تجاه الظلم الاجتماعي أو تنازل الإنسان عن معتقداته أو التغاضي عن بعضها إنه يعني أن تكون للإنسان الحرية في التزام ما يعتقده ، يعني قبول حقيقة أنّ البشر بحكم الطبيعة مختلفون في صورهم وأوضاعهم وكفاءتهم وسلوكهم وقيمهم ولهم الحق في أن يعيشوا في سلام ، والتسامح يعني تسليم الإنسان بأن عقائده يجب أن لا تفرض على الآخر, وهو عكس التطرف أو ( الراديكالية ) في عالــــــــــــــــــم السياسة وهــــــــــــــــــــو أمـــــــــــــــــر مرفوض من وجهة نظـــــــــــــــــر الإسلام لأنــــــــــه انحراف عـــــــــــــــــــن خط الاعتـــــــــــــــــــدال والوسطية ، ويظهر تـــــــــــــــــــــــارة في صور الإفراط وأخرى فـــــــــــــــــي صور التفريـــــــــــــــــــــــــط وذلك لأن تعاليـــــــــــــــــم القـــــــــــــــــــرآن بنيـــــــت على الوسطية كمــــــــــــــــــــــا نــــــــــــــادى بذلك في آيات عـــــــــدة مثل قولـــــــــــــه تعالى: ]وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [. والوسط هو العدل أو الخيار وهو مأخوذ من المكان الذي تعدل المسافة منه إلى أطرافه ، أي التوسط بين المقصر والمغالي .
وكذلك قوله تعالى ]وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ . وروى المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية ان الرسول (ص) خطّ خطاً بيده ثم قال (( هذه سبيل الله مستقيماُ ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ))
وقال الإمام علي عليه السلام ( الطريق الوسطى هي الجادة ) وقال أيضا ( لا يُرى الجاهل إلّا مفرطا أو مفرطا ) .
وما له علاقة بقبول الآخر إنّ تعريف الإيمان عند جمهور المسلمين هو الإيمان بالله وبرسالة نبيه وهذا الإيمان ينبغي أن يشمل الإيمان بنبوة الأنبياء السابقين والكتب السماوية السابقة.
إذن التسامح يعني اعتراف بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير لا تكرماً ولا منّه .
كان الهدف الجوهري للأديان السماوية تسيّيد قيم الخير والحق والجمال في هذا العالم ، داعية إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة مستبعدة لغة الدم والحديد والنار مستهدية بالعقل والفطرة والتجربة الحية والله تعالى هو السلام ومنه السلام وإليه السلام.
فإن حذف الآخر يعدم رسالة الدين والفلسفة ويجرد الوجود من كل أقليّة بشرية أو من أكثرية فتضيق الحياة بالحذف المستمر ، وبما إنّ الآخر صيرورة تاريخية معقدة فهو لا ينزل من السماء ولا ينبثق من الأرض وإنما يتكون من خلال التاريخ.
ولذلك فإن القرآن الكريم عني عناية قصوى بالآخر وكيفية التعامل معه من خلال عدد من الآيات منها قوله تعالى : ] وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [أي عليك ان تبلغ وتقيم الحجة وليس عليك أن لا يتولوا ، فإنما عليك البلاغ فقط.
الآية تحكي كيفية التعامل مع أهل الكتاب ، وفيها إشارة إلى عدم الإلحاح معهم وإن الحكم في حق الناس الأمر مطلقا إلى الله سبحانه وليس للنبي (ص) ، فالرسول (ص) مبلغ لا مسيطر وعبارة فإنما عليك البلاغ كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربهم وإرجاع أمرهم إليه.
وآية أخرى قوله تعالى ] فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ[.
بمعنى أنت واعظ أي ليس عليك إلّا التذكير والوعظ ولست بمسلط حتى تكرههم على الإيمان وإنما أنت مذكّر لكي تقوم الحجة عليهم . والتذكير هو التعريف بالبيان الذي يقع به الفهم ، وهذا التذكير فيه نفع عظيم لأنه طريق للعلم وملين القلب للعمل بها .
إذن من الواجب التبليغ والتذكير من خلال الأسلوب العلمي وإقامة الحجّة بالفكر وليس بالقسر والقوة لأن الآخر هوية مستقلة هي التي تقرر وتملك حق الحكم وتملك حق الحياة .
وقال تعالى ] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [
جنح الرجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل أعناقها في السير والمقصود مهادنة المشركين وموادعتهم. بمعنى يجوز المهادنة والموادعة والمعاهدة مع أهل الحرب بعد أن يجنح العدو لها.
هذا النص القرآني وهذا التفسير يؤسس للسلم الاجتماعي ولا يطرح الحرب كأصل في العلاقات بل يرى في الآخر إنه مشروع حوار وليس مشروع حرب .
ومما يشير إلى التعامل بالإحسان مع الآخر المختلف مهما كانت قوميته ودينه وميوله قوله تعالى ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ .
العدل والإحسان يعني الإنصاف بين الخلق والإحسان إلى الغير . ويعلق الطبري على هذه الآية بقوله ( إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون ويستحسنونه إلّا أمر الله به ، وليس من خلق سيء إلّا نهى الله عنه ) .
إذن إنّ أهل الجاهلية ممدوحين بهذه الآية اذا كان عملهم حسناً وان اختلفوا في العقيدة مع المسلمين . ولشمولية هذه الآية فأنه ورد عن الرسول (ص) قوله فيها جماع الخير والتقوى .
وهناك آية أخرى تشير الى حرية الاختيار في العقيدة قوله تعالى ]وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [ معناه ليختار أما السعادة وأما الشقاوة. بمعنى آخر أيها الرسول قل من يشاء منكم للرشاد فليؤمن ومن يشاء غير ذلك فليكفر ، ليس إلى من ذلك شئ .
وفي آية تدل على الايمان باختلاف البشر في ميولهم وطباعهم شريطة أن لا يؤدي هذا الاختلاف إلى الفوضى وفقدان النظام كقوله تعالى ] قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ [ .
والشاكلة هي السجية سمي بها لتقيدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها والشاكلة الطريقة ، فالآيــــــــــــــــة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح .ولذلك إن اللائق بهذه النفس ان يظهر بها آثار الذكاء والكمال والسجية الحسنة والهدى بدل الضلال . ويرى البعض في معنى ( كـــــــــــــــل على شاكلته ) أي على ناحيته أو على طبيعته أو على دينه, وإن تكريم مبدأ حرية الانسان هو في القرآن أسبق من أي مذهب من المذاهب الوضعية الإنسانية، ورغم تقدم المجتمعات الغربية في انجاز نظام الحرية وتخلف المجتمعات الأسلامية بهذا الحال الاّ ان كلاهما محكوم بمبدأ قرآني هو اشبه بالقانون العام والسنن التاريخية والمعبر عنه بقوله تعالى ] إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [ .
أي إن الله لايسلبهم نعمه حتى يبدلوا نعمّهم كفرا اذن الخيار عند الإنسان إن الله لا يبدأ بتغيير نعمته على قوم حتى يجئ ذلك منهم ، فاذا فعلوا ذلك غير الله نعمته .
ولقد أشار النص القرآني إلى تقرير حقائق الاختلاف في الكون والحياة والإنسان ولعل ذروة التعبير في هذه الحقائق قوله تعالى ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [ .
والعلة في عدم جعلهم أمة واحدة لما فيه من الخروج عن سنن التكليف وبطلان استحقاق العباد للمدح والذم وهذا عكس ما أراده المجبرة بحملها المعاصي على الله وإنه لا قدرة للكافر على الخلاص من كفره ولا سبيل للفاسق على ترك فسقه ، وهذا الاعتقاد الخاطئ يسقط عن المكلف الحرص على فعل الطاقة والاجتناب عن المعصية. إذن الله مكنهم من الاختيار ليستحقوا الثواب فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل .
أما المذموم قرآنيا من صور الخلاف هو الاقتتال والتنابذ والنفي المتبادل .
إن الأسلام يــــــــــــــــــــــــــــــرى إن التعارف والحوار هو قدر هــــــــــــــــــــــــذه الجماعات البشرية وإن مقياسها في ذلك هـــــــــــو التقوى أي العـــــــدل والتوازن وعــــــــــــدم الطغيان وهــــــــــــــــو ما تجسده الآية ] يَا َيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ[ . أي كلكم من أب واحد وأم واحدة وكلكم أخوة، وجعلناكم شعوباً وقبائل مختلفة في العادات وفق اختلاف الأصقاع والبيئات، لتعارفوا: ليتعرف بعضكم الى بعض وتسعى كل أمة في رفع مستواها وبذلك يتدرج الإنسان إلى مدارج المدينة الراقية .
بعد أن أقر القرآن مبدأ التعددية وقبول الآخر والاحترام المتبادل لابد من إيجاد صيغة ملائمة للتعبير عن ذلك وبشكل يحول دون نشوب صراع يهدد سلامة المجتمع وذلك واضح في قوله تعالى ] ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ .
أي ادعُ الناس بالمقالة المحكمة الصحيحة وهي البرهان الموضح للحق والمزيل للشبهة وقيل بالمعرفة ومراتب الأفعال والأحوال والموعظة الحسنة وفي ذلك تليين للقلب .
إذن هو كتاب يدعو الى المعرفة والعلم والحوار مع الآخر باستخدام البرهان ومن خلال اسلوب جميل لكي يتقبله ويفهمه الآخر .
وقوله تعالى ] قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم [ .
أي تعالوا الى كلمة لايختلف فيها الرسل والكتب، وهي دعوة الى النقاط المشتركة بين الاسلام واهل الكتاب وبهذا يعلمنا القرآن درساً مفاده : انكم اذا لم توفقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة ، وتعتبر هذه الآية نداء للوحدة والاتحاد .