مفهوم الوطن في ضوء الشريعة الإسلامية
المدرس عباس جاسم ناصر
مركز دراسات البصرة والخليج العربي
حبُّ الوطن يأخذ بعداً إيمانياً؛ فالطريق إلى الله لا يكون إلّا عن طريق الوطن؛ إذ إنّ الله تعالى عندما خلقنا أراد لنا أن نكون على هذه البقعة، فهو من اختار لنا مكان ولادتنا، ومن هم رفاقنا، ومن هم الّذين سوف يحيطون بنا خلال مسيرة حياتنا، ولا شك إنّ الإنسان عندما يحب وطنه يكسب الأمن فهو لن يضحّي بوطنه إزاء مكاسب شخصيّة، ومتى توفّر الأمن توفّرت الظروف المناسبة لكي يتفكّر بالله عزّ وجل، ومن هنا جاء في الحديث عن الرسول الاكرم: «حب الوطن من الايمان».
وعن أمير المؤمنين علي (ع): «لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء, ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة ولا في الوطن إلا مع الامن والمسرة».
من الملاحظ أن مفردة الوطن والمواطنة حظيت باهتمام الشريعة المقدسة، وأخذت مساحة واسعة من الفكر الإسلامي، سواء على صعيد الاحكام الشرعية، أم على صعيد الحقوق المدنية، وأسست له القواعد والضوابط التي على اساسها يعرف المواطن ما له من حقوق وما عليه من واجبات، بغض النظر عمّا يؤمن به ذلك الفرد من دين أو مذهب .
هذا في الوقت الذي نراه من منطق الكافرين والحكام المستبدين في تعاملهم مع من يختلف معهم في العقيدة والرأي، ففي منطق هؤلاء أن من يخالفهم في العقيدة ليس له حق الحياة على هذه الارض، كما يقول الله تعالى في كتابه الكريم: )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} .
بهذا المنطق تعامل أعداء الاسلام مع الرسول ومع المسلمين، ومع كل ذلك فإن التاريخ يحدثنا كيف تعامل النبي الاكرم مع من حاولوا قتله واخراجه من وطنه حيث لما اظهره الله ونصره عليهم قال لهم قولته المشهورة: «لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».
نعود الى مسألتنا، فنجد أن الاسلام لم يفرق بين الحر والعبد، ولا بين السيد والمولى، بخلاف ما يراه افلاطون في جمهوريته الفاضلة من حرمان العبيد من حق المواطنة واجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من ساداتهم. ويتفق معه في هذا الرأي تلميذه أرسطو, فهو يجعل كلمة المواطن مرادفة لكلمة حر.
أما الإسلام فإنه يعتبر النسبة إلى الوطن أعم من أن يكون بلاداً، أو ضياعاً، أو ملكاً، أو مجاورة، فالمواطنة عنده تتحقق بأدنى علقه، فمن ملك في بقعة مّا من الارض ولو نخلة صار ذلك المحل وطناً له، فضلاً عمن يكون له عقاراً، وقد أشارت الى ذلك كلمات الفقهاء تبعاً لروايات الأئمة المعصومين(ع)، فقد فاضت كتبهم الفقهية بهذه المسالة وأعطت للوطن معان متعددة من حيثيان مختلفة بحسب الحالة التي يعيشها الانسان. فمرة يكون ذلك الوطن بالنسبة اليه وطناً عرفياً، ومرة شرعياً، وأخرى اتخاذياً، وكذلك الحالة التي يتخذها الانسان، مرة يُعبَّر عنها توطناً، ومرة استيطاناً وهكذا.
ومن هنا عَرّفوا الوطن بحسب اللغة بأنه موطن الانسان ومحل سكناه.
وأما تعريف الوطن بحسب الاصطلاح فيمكننا الوقوف عليه من خلال كلمات الفقهاء، فقد بحثوا هذه المسألة في باب صلاة المسافر من كتاب الصلاة، وبالجملة يفهم من كلمات بعضهم أن الوطن ينقسم الى ثلاثة أقسام:
1 ـ الوطن العرفي
2 ـ الوطن الشرعي
3 ـ الوطن الإتخاذي
وأضافوا الى التعريف اللغوي بعض العبارات وإن اختلفوا في ذلك، فمنهم من يشترط وجود أهله، أو عدم كونه مسافراً عرفاً في صدق الوطن العرفي، ومنهم من يرى مدخلية مسقط الرأس في ذلك، ومنهم من يشترط الاستيطان في ذلك المكان ستة أشهر فصاعداً في تحقق صدق الوطن الشرعي، ومنهم من أوكل ذلك الى العرف.
واعتبر بعض الفقهاء الملكَ في تحقق صدق الوطن بكلا قسميه العرفي والشرعي، ومنهم من اعتبر الاقامة في الجملة، ويرى بعضٌ تحقق صدق الوطن باتخاذه منزلاً ابداً.
واشار بعضهم الى تحقق صدق الوطن بحسب الاشخاص والخصوصيات. ويفهم من كلمات اخرين ارجاع الوطن الشرعي الى العرفي معتبراً أن من أقام ستة أشهر في مكان معين، فان العرف يرى أن ذلك وطناً له.
وعلى ايّة حال فان الشرع المقدس يرى أن من حل في بقعة من الارض فقد صارت وطناً له.
ونذكر فيما يأتي بعض كلمات الفقهاء في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
فقال السيد المرتضى علم الهدى معرفاً الوطن بأنه: «... مصره الذي فيه أهله ووطنه ، وهو بدخوله إليه قد خرج من أن يكون مسافرا».
أما المحقق الحلي, فقد عرّف الوطن بقوله: «... أنه لا بد من حد للاستيطان ، وحيث لم يحده الشرع قدرناه بما يسمى في العادة استيطانا، ومن أقام في ملكه هذه القدر فقد مر عليه فصلان مختلفان فقضى العرف بأنه وطن». وقال في مصدر آخر: «والوطن الذي يتم فيه : هو كل موضع له فيه ملك ، قد استوطنه ستة أشهر فصاعدًا ، متوالية كانت أو متفرقة».
وبيَّن صاحب الجواهر+ المراد من الوطن بقوله:
«والمراد بالوطن الذي يتم فيه، وإن عزم على السفر قبل تخلل العشرة، هو كل موضع يتخذه الانسان مقراً ومحلاً له على الدوام إلى الموت....
*المقال قدم ضمن اعمال الندوة الموسومة (المواطنة في العراق بين الواقع والتحديات), التي أقامها قسم الدراسات التاريخية في مركز دراسات البصرة والخليج العربي, بتاريخ 3-8-2018 .