التسامح في البصرة من خلال كتب الرحالة الأجانب في العصر الحديث

التسامح في البصره من خلال كتب الرحالة الأجانب في العصر الحديث

الاستاذ المساعد الدكتور حيدر لازم عزيز

   في الوقت الذي كانت فيه مناطق عدة من العالم تعيش حالة من الصراع الإثني وعدم التسامح مع الآخر المختلف, كانت البصره واحة للتسامح والقبول بذلك الآخر المختلف. فعلى سبيل المثال كانت الهند في العصر الحديث تشهد العديد من المذابح بين مكوناتها الإثنية, التي راح ضحيتها الكثير من الضحايا. كما شهدت قارة أوربا تميزاً واضحاً ضد اليهود وصل إلى حد تنفيذ عدة حملات إباده بحقهم كما حصل في روسيا القيصريه وبولندا ولمرات عدة, فضلاً عن ذلك شهدت لبنان مذابحاً طائفية بين المسلمين والمسيحيين, وليس ببعيداً عن العراق. وقد نفذ الوهابيون حملات تطهيرية كبيرة ضد كل من اختلف معهم فكرياً في نجد والحجاز وسواحل الخليج الشرقية .

      لكن الأوضاع كانت على العكس من ذلك تماماً, فعلى الرغم من أن الإداره العثمانية في العراق بشكل عام, قد سعت إلى إخضاع سكان العراق عبر نشر الخلافات فيما بينهم من خلال إثارة مكونات المجتمع العراقي الواحد ضد الآخر, واذكاء روح الضغينة والحسد فيما بين تلك المكونات, من أجل تسهيل هدفها الأساس الذي تمثل في تنفيذ قوانينها المتعلقة بالضرائب واستمرار تبعية البلاد لها(1) , إلا إن مدينه البصرة وضواحيها خلال العصر الحديث لم تستجب لتلك الإستراتيجيه وضلت مدينة تسامح ووئام, إذ عاشت مكوناتها الإثنية من دون أية مشكلات تتعلق بالاختلافات العرقية أو الدينية لتك المكونات. فقد زار البصرة في العصر الحديث عدد ليس بالقليل من الرحالة الأجانب, وسجلوا ملاحظاتهم عن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن هذه المدينة, إذ عبر أغلبهم عن اعجابه بحالة التسامح وقبول الآخر فيها, كما لم يسجل أياً منهم أية ملاحظة حول وجود اضطهاد أو تعسف تجاه الأقليات التي كانت تعيش فيها. بل على العكس, قد أشادوا جميعاً بالتنوع الإثني والثقافي والاجتماعي الذي عاشته البصرة. وقد حفلت كتبهم في وصف رحلاتهم بصور مشرقة عن روح التسامح وقبول الاختلاف الإثني من سكان هذه المدينة . 

     وبما أن مدينة البصرة تضم عدداً من القوميات, فقد تنوعت الملابس التي شاهدها الرحالة فيها, فرجالها العرب كانوا يرتدون الكوفية والعقال والعباءة دائماً ويعتزون بها ويعدونها من مظاهرهم القومية, ويستهجنون لبس الملابس الحديثة الغريبة عن عاداتهم وتقاليدهم, أما النساء الأرمنيات فأنهن يلبسن أثواباً فضفاضة يسحبنها على أتربة الشوارع, والمرأة الأرمنية لا تخرج سافرة (اي إنها مثل المرأة المسلمه ) بيد أنها في أكثر الأحيان تضع على وجهها قطعة رقيقه من القماش الأسود او تلف رأسها بمنديل حريري, وتحلي يديها بالأساور الذهبيه وصدرها بالحلي النفيسة وشعرها بجواهر ثمينة متلألئة, والتركيات يلففن انفسهن بقطعة رقيقة من القماش تسمى أزار وهي منسوجه من الحرير الأزرق او الوردي أو الابيض المصفر موشاة بخيوط رقيقه من الذهب أو الفضه, ويلبسن تحت الأزار سترة دائرية الشكل ويتحزمن بحزام عريض صنع من الفضه محلى بالجواهر النفيسه وفي مقدمته قطعة كبيرة من الفضه. أما أحذيتهن فكانت صغيرة تشبه تلك التي تلبسها النسوة في مدينة بوشهر الايرانية, وأكثر نساء البصرة حسناوات ينتعلن أحذية مستوردة من بريطانيا(2) .

-التسامح الديني في البصرة :

    يذكر الرحالة الايطالي ديللافاليه أن أغلب سكان البصرة مسلمون من مختلف المذاهب يعيشون من دون أي تميز مما إنعكس على واقع المدينه الخالي من أية مشكلات طائفية (3). وعلى الرغم من ذلك ففي البصرة تنوع ديني كبير جداً أثار استغراب أغلب الرحالة الأوربيين الذين زاروا مدينة البصرة, إذ ذكر الرحالة الايطالي كاسبارو وبالبي الذي زار البصره في آذار عام1579م   إن البصرة تكاد تكون مجمع المذاهب المختلفة الذي يقارب عدد ما فيها من أنواع النخيل .... إنك تجد النساطرة فيها والسنة والشيعة والبابية والوهابية والمسيحية الرومية والمسيحية الكلدانية والصابئه واليزيدية واليهود والأرمن وغيرهم كل بجنب الآخر وقلما يحدث نزاع بين أنصار هذه الطوائف التي تمارس كل منها شعائرها المذهبية الخاصة بمطلق الحرية والاطمئنان (4). وإلى جانب هذا التنوع الديني هناك تنوع قومي لايختلف كثيراً عن سابقه, ففي البصرة أقوام مختلفة من كل فج عميق, ففيها العرب والفرس والاتراك والارمن(5). ومن الجدير بالملاحظه أن كل الرحالة الأوربيين الذين مروا على هذه المدينه لم يسجلوا في مذكراتهم أية حالة اضطهاد أو تمييز طائفي اوعرقي, بل على العكس استحسنوا كثيراً ظروف التسامح الديني والقومي وحرية العبادة فيها. وبين أغلبهم الأوضاع الجيدة التي تحيط بدور العبادة لتلك الطوائف الدينية المتنوعة في البصرة .

     وأكثر ما كان يثير انتباه أولئك الرحاله من هذه الطوائف هم الصابئه المندائيون(6) الذين دعاهم أغلب الرحـالة بنصارى القديس يوحنا, إذ اسـهبوا فـي طـقوس الصابئه الدينيه وطـقوس الـزواج ودفـن الموتى(7). ونظراً إلى وجود عدد كبير من الأوربيين المسيحيين في مدينة البصرة فقد فتح الرهبان الكرمليون(8) مبعثاً لهم وجاء بعدهم الرهبان الاوغسطينيون البرتغاليون (كاثوليك نسبه الى القديس اوغسطين ), وكان لكل رهبانبة كنيستها التي تقيم فـيها شعائرها الدينية الخاصه بها(9) . وكان النصارى في مدينتي البصرة وبغداد يدفعون الجزية للسلطات المحلية عندما زار تايلر العراق سنة 1789م , وكانت لا تتجاوز خمسمائة كيس(10) لكن تايلر لم يحدد قيمة ذلك الكيس .

         وبذلك فبينما كانت العديد من مدن العالم تشهد أعمالاً بعيدة عن روح التسامح , كانت البصره تمارس أعلى مراتب الألفه والعيش الآمن لمختلف مكوناتها الإثنية, وهذا ما اثبتته نصوص من كتب الرحاله الأجانب الذي مروا بها وأقاموا فيها لفترات معينه حيث اعجبوا بما شاهدوه من روح التسامح وقبول الآخر. بل إن كتبهم لم تحمل أية ملاحظة تدل على وجود أي رفض أو نفور من تلك المكونات المختلفه التي عاشت وهي تمارس طقوسها وعاداتها وتقاليدها وتلبس أزيائها بكل حرية .

 

الهوامش:

المقال من أعمال الندوة الموسومة (التسامح وقبول الآخر), التي اقامها قسم الدراسات التاريخية في مركز دراسات البصرة والخليج العربي .

1-خليل علي مراد , الاحوال الاجتماعيه في العراق في عهد الانتداب البريطاني (في المفصل في تاريخ العراق المعاصر- مجموعه من الباحثين  ), بغداد , 2002, ص 454.

2-ديو لافوا , رحلة مدام ديو لافوا : من المحمرة الى البصرة وبغداد 1299هـ -1881م , ترجمها عن الفارسية علي البصري , مراجعة وتقديم مصطفى جواد , ط1 , الدار العربية للموسوعات , بيروت , 2007 ,  ص 24-25 .

3-فنشنسو : قس ايطالي ارسل في مهمه دينيه الى الهند الشرقية عام 1656م فزار البصرة في شهر ايلول من ذلك العام , ورجع  اليها حينما اراد العودة الى بلاده  وذلك في شهر حزيران 1658م . ينظر, فنشنسو , رحلة فنشنسو الى العراق في القرن السابع عشر , ترجمها عن الايطالية وعلق عليها بطرس حداد , مجلة المورد , المجلد الحادي عشر , العدد الاول , بغداد , 1982,   المصدر السابق ,ص82 .

4-كاسبارو وبالبي , رحلة الايطالي كاسبرو وبالبي الى حلب –دير الزور – عنه – الفلوجه – بغداد 1579, عربها عن الايطـالية وعلق عليها بطرس حداد , ط1, الدار العربية للدراسات , بيروت ,   2008 , ص 113 .

5-فنشنسو , المصدر السابق , ص85 .

6-عن هذه الطائفه ينظر : الصابئه المندائيون , الليدي دراوور , ترجمة نعيم بدوي وغضبان رومي , ط2, الدار العربية للموسوعات , بيروت , 2005م , بيروت .

7-نسبة الى يوحنا المعمذان , ينظر : تافرنييه , رحلة الفرنسي تافرنييه الى لعراق في القرن السابع عشر , ترجمة كوركيس عواد وبشير فرنسيس , الدار العربية للموسوعات , بيروت , (د,ت), ص 73 . بينما دعاهم الرحالة الايطالي النصارى الكلدانين. ينظر ديللا فاليه , رحلة ديللافاليه الى العراق (مطلع القرن السابع عشر ) , ترجمها عن الايطاليه بطرس حداد , دار الموسوعات العربية , بيروت , ط1 , 2006م, ص 118 .

8-الكرمليون : مسيحيون كاثوليك نسبتاً الى جبل الكرمل في قلسطين للمزيد عن وجودهم في العراق ينظر . ستار جبار الجابري , العلاقات العراقية - الفرنسية 1921-1956, ط1, مركز العراق للدراسات , بغداد , 2009, ص 17-20 .

9-ديللافاليه , المصدر السابق , ص 119 ؛ تافرنييه , المصدر السابق , ص 73 .

10-تايلر, رحلة تايلر الى العراق (سنة 1789-1790) , ترجمها وعلق عليها بطرس حداد , مجلة المورد , المجلد الحادي عشر , العدد الاول , بغداد , 1982, ص 36