عبد الحكيم الكعبي في اطروحته (دور البصرة التجاري من القرن الثاني حتى الرابع الهجري)

    ليس من المبالغة القول بأن اطروحة الكعبي-دكتوراه دولة قدمت إلى كلية العلوم الانسانية والاجتماعية في جامعة تونس الأولى سنة 1997- واحدة من الدراسات المهمة, التي اشتغلت على البصرة في مرحلة تأسيسها كحاضرة اسلامية, على مدى قرنين من الزمان. وفي السياق نفسه, تكتسب الأطروحة أهمية اخرى, إذ إنها تساهم بإعادة التفكير بهوية البصرة الحضارية. وفي هذا المقال سعي لمحاولة تقديم عرض موجز عنها .

    من الأهمية بمكان ذكر المفكر التونسي الذي أشرف على الأطروحة لأربع سنوات قبل احالته الى التقاعد -كما يذكر الكعبي في المقدمة-, من ثم انتقل الاشراف إلى الاستاذ الدكتور راضي دعفوس في سنة 1997. تقع الأطروحة في 427 صفحة، وقد ضمت أحد عشر فصلاً موزعاً على ثلاثة أبواب، مع ملاحق وخرائط، وهي دراسة معمقة وشاملة عن مدينة يختصر فيها, بامتياز,  تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، لانها اهتمت بأولى الحواضر العربية الكبرى، خارج شبه الجزيرة العربية، التي ولدت مع الفتح الإسلامي، وكانت البصرة أحد أهم المراكز الحضارية الاسلامية.

   والبصرة القديمة المتخفية اليوم في رمالها، تبدو أخبارها أكثر تخفيا في ثنايا النصوص التاريخية القديمة، لذلك فإن هذه الدراسة التي استندت إلى كم كبير من المصادر العربية والأجنبية، تتخطى دور البصرة التجاري في القرون الأولى من تأسيسها، إلى محاولة ترميمها وإعادة بنائها مجددا بكل هيبتها وعمرانها، بجامعها وبلاطها، بأنهارها ومرافئها وساحاتها، ومدافنها وأسواقها وخططها، والشوارع والدروب التي تقطعها، فضلا عن الطرق التجارية التي تربطها (بحرا وبرا ونهرا) بالعالم الخارجي، كما رصدت الدراسة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المدينة في القرن الأول الهجري، أي قبل تحولها إلى واحدة من أهم المدن التجارية في العالم آنذاك.

     من جانب آخر، يكتسي الإطار الزمني لهذ الدراسة أهمية خاصة في مسار التاريخ العربي الإسلامي، وفي تاريخ منطقة الخليج العربي والبصرة بشكل خاص، ففي هذه الحقبة شهدت الدولة العربية الإسلامية أقصى اتساع لها، وانتشر الأمن والاستقرار في أرجاء واسعة من المعمورة آنذاك بعد أن أصبحت خاضعة لسيادة دولة واحدة قوية وتحقق الالتحام بين مجالين اقتصاديين كبيرين، هما مجال المحيط الهندي ومجال البحر المتوسط، مجالان توحدا في الماضي البعيد، ثم ما لبثا أن انفصلا إلى عالمين متنافسين على مدى عدة قرون قبل ظهور الإسلام. وقد عاد هذان المجالان لينصهرا من جديد بفضل الفتح العربي الإسلامي، فتحولا إلى مجال اقتصادي فسيح وموحد قائم على علائق تجارية عريضة، و طرق قوافل وخطوط ملاحية كثيرة، وعلى عملة سائدة هي الدينار والدرهم الإسلاميين، ولغة تجارية دولية هي العربية .

     وفي هذا العصر أيضاً، زادت موارد الدولة والجماعات والأفراد، وجنح الناس إلى حياة الترف والبذخ. واستجدت أحداث ساهمت في تحريك الثروة بين أبناء المجتمع وانتقالها، سواء عن طريق التجارة والصيرفة، أو عن طريق تقديم الخدمات أو الأنشطة الاقتصادية الأخرى.

        في ظل هذه الظروف برزت أهمية البصرة ونشطت فيها الحركة العلمية وظهرت المذاهب الدينية والأدبية كما برزت فيها المدارس الفلسفية والفكرية. إلى جانب تعاظم أهميتها التجارية. وقد وصفها أديبها الكبير الجاحظ وصفا طيبا يبرز أهميتها التجارية بالنسبة للعراق، ومن مأثور قوله في ذلك: "العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق.

طرح الباحث في مقدمة هذه الأطروحة الإشكاليات الآتية:

ـ ما الذي تهيأ لتلك النواة العسكرية، المغلفة بجدار سميك من البداوة، والمحاطة بظروف بيئية غير ملائمة، لتتبوأ تلك الأهمية الاقتصادية، والمكانة التجارية العالمية بعد قرن واحد تقريبا من تأسيسها.؟

ـ ما هي الخصائص التي جعلت هذا المعسكر البدائي يتوجه بسرعة نحو الحياة الحضرية، ويتعدى السبب الذي أنشئ من أجله؟

ـ لماذا وكيف هاجر هذا العدد الكبير من السكان إلى منطقة هي فقيرة في الظاهر؟ وكيف شكل هذا الجمع البشري فيما بعد مدينة كبيرة ذات شأن هام في ذلك العصر؟

ـ  كيف تحولت المنطقة من منطقة طفيلية إلى منطقة منتجة؟

ـ  وأخيرا: لماذا وكيف تطورت تجارة البصرة؟ وما دورها في ميدان النشاط التجاري على صعيد المنطقة والعالم؟ وما طبيعة وحجم نشاطها وصلاتها التجارية مع العالم الخارجي، ومدى انعكاس ذلك التطور على حقول الاقتصاد الأخرى، كالزراعة والصناعة والنظم المالية والأسواق وغيرها. 

  حاول الباحث في هذه الدراسة الإجابة على هذه الإشكاليات في ضوء منهج يعد التاريخ نشاطا إنسانيا متكاملا تتراصف فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية بأدوار وإن كانت متفاوتة في تأثيرها وفق الظرف ومعطيات المرحلة، إلا أن لها جميعا حكمها في صياغة الحدث، من دون اختزال لحقب التاريخ أو منعرجاته الكبرى في ثنائيات مبسطة: تقدم وتراجع، أو تطور وتأخر.

       اقتضت طبيعة الدراسة المعمقة أن يعقد لها مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، وقد دار الاهتمام في المقدمة على التعريف بموضوع البحث والمنهج الذي المعتمد في دراسته مع عرض نقدي لأهم المصادر والمراجع التي استعان بها الباحث.

      في الباب الأول عرض الباحث الظروف التي رافقت نشوء المدينة والمنعرجات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في تاريخها منذ تأسيسها حتى ظهور دورها التجاري، وقد ضم هذا الباب أربعة فصول، درس في الفصل الأول الدوافع والأسباب العسكرية التي تحكمت في اختيار موقعها كمعسكر بدائي تطلبته عملية فتح العراق، وتعرض إلى أهم ملامح المدينة الجغرافية وظروفها البيئية الصعبة، كرداءة التربة وقساوة المناخ وشحة المياه الصالحة للشراب والتي شكلت صعوبات جدية بالنسبة لسكانها الأوائل من المقاتلين العرب.

     وفي الفصل الثاني تناول المراحل اللاحقة في تاريخ المدينة وهي على طريق التمدن والاستقرار، وما شهدته من توسع عمراني، وزيادة سريعة وهائلة في إعداد سكانها نتيجة الهجرة إليها من شبه جزيرة العرب، وقد استدعى الحديث في هذا المجال التعرف على طبيعة المجتمع البصري من العرب وغيرهم، ودور كل منهم في النشاط الاقتصادي للمدينة، وتناول بالتحليل والمناقشة طبيعة التحولات الاجتماعية التي شهدها مجتمع البصرة وانعكاس ذلك على مستقبل المدينة.

    وتطرق الفصل الثالث من هذا الباب إلى تطور الحياة الاقتصادية في البصرة، خاصة بعد توسع الدولة في استصلاح الأراضي وحفر الأنهار، وشق القنوات والترع الكثيرة، وتوزيع القطائع على رجالها البارزين، وكبار القادة العسكريين الذين اجتهدوا في استثمار تلك الأراضي فازدهرت الزراعة وانتشرت في أرض البصرة شبكة هائلة من الأنهار والقنوات قدر عددها بأكثر من مائة وعشرين ألف نهر تجري فيها الزوارق. وتنوعت محاصيلها الزراعية حتى فاضت عن حاجة الاستهلاك المحلي لتكون مادة للتصدير فأصبحت البصرة خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين أهم مركز لتسويق المواد الغذائية في المنطقة، والمجهز الرئيسي للسفن التجارية في موانئ الخليج العربي ذات الرحلات البعيدة بهذه المواد. كما ظهرت في البصرة صناعات عديدة، على أيدي بعض المسلمين من غير العرب ومن أبناء الطوائف الأخرى كاليهود والنصارى، وهي صناعات بدائية وبسيطة تطلبتها حاجات المجتمع الجديد. ولكنها تطورت مع الزمن، خاصة صناعة المنسوجات التي اشتهرت بها البصرة وكانت تصدر إلى جهات عديدة. كما احتوى هذا الفصل بحثا عن أسواق البصرة التجارية المهمة، كالمربد الذي كان المحطة الرئيسة لتجارة القوافل، والكلاء المرفأ النهري الهام في تاريخ التجارة البصرية، وغيرهما من الأسواق الأخرى.

     أما الفصل الرابع الذي شكل العمود الفقري للبحث في هذا الباب، لما فيه من جدة وطرافة، فقد تناول فيه العوامل والأسباب التي أدت إلى ظهور الوظيفة التجارية للبصرة، وهي عوامل جغرافية وسياسية واقتصادية وبشرية تضافرت جميعها لتجعل من البصرة مدينة تجارية مهمة، ذات دور مؤثر في ميدان التجارة العالمية على مدى قرنين من الزمان تقريبا. كما تطرق هذا الفصل إلى ظهور طبقة التجار في البصرة، وشهرة التاجر البصري العالمية آنذاك، وإلى أصناف التجار، والشركات التجارية التي كانت قائمة، ورأي الفقهاء فيها من حيث جوازها أو بطلانها. مع الإشارة إلى النظم المالية المتطورة التي ظهرت في البصرة، كالبنوك والصيرفة والسفاتج والصكوك ونظم الائتمان، التي كانت من أبرز مظاهر الازدهار التجاري في المدينة.

    أما الباب الثاني، الذي أفرد لدراسة طرق ومنافذ التجارة البصرية، فقد تضمن مقدمة وثلاثة فصول، تناولت المقدمة طرق ومسارات التجارة العالمية في العصر الوسيط، ودار البحث في الفصل الأول منه حول طرق التجارة النهرية، وفي مقدمتها أنهار الملاحة الرئيسية في البصرة(نهر الأبلة ونهر معقل)ودورهما في تنشيط الحركة التجارية في المدينة، ثم تناول دور النهرين الخالدين دجلة والفرات في حركة النقل التجاري بين البصرة وبين مدن العراق الأخرى وخاصة بغداد، والجزيرة الفراتية، وبلاد الشام.

   وفي الفصل الثاني، الذي خصص لدراسة الطرق البحرية، تناول في بدايته موضوعا جوهريا يتعلق بمصادر الخبرة الملاحية التي تهيأت لسكان البصرة، ودفعتهم إلى المغامرة في عرض البحار، حتى صار المحيط الهندي مسرحا لنشاطهم التجاري الواسع. ثم شرح طبيعة الملاحة في كل من الخليج العربي والمحيط الهندي، مع تتبع لمسارات الطرق البحرية من البصرة إلى الهند والصين وشرق أفريقيا والبحر الأحمر. مستندا في ذلك إلى خرائط مدققة على ضوء روايات الرحالة العرب المعاصرين لفترة البحث، وفي مقدمتهم سليمان التاجر، وأبو زيد السيرافي، وابن خرداذبه، وختم هذا الفصل بدراسة مهمة عن سفن التجارة، من حيث صناعتها وأنواعها، متناولا بشيء من التفصيل الطريقة التي تميزت بها صناعة سفن الخليج العربي والمحيط الهندي، معززة ببعض الصور والمخططات لأنواع من تلك السفن وطريقة صناعتها.

      وتناول الفصل الثالث الطرق البرية التي كانت تنقل من خلالها المتاجر من وإلى البصرة، وقسمها إلى أربع مجموعات هي: طرق العراق، وطرق الخليج العربي والجزيرة العربية، وطرق الشام وشمال إفريقيا، والطرق إلى بلاد فارس والشرق الأقصى. وتطرق إلى جهود الدولة في تأمين هذه الطرق من أخطار اللصوص، وتوفير الخدمات فيها، كإقامة الدولة للخانات على طول هذه الطرق، وتعليمها المسافات بين المحطات. ثم انتهى إلى عرض موجز لأهم وسائل النقل البري في تلك الحقبة.

    وخصص الباب الثالث والأخير لعلاقات البصرة وصلاتها التجارية بالمدن والأقاليم الأخرى، وقد اجتهد الباحث في رسم دائرة تلك الصلات وفق تدرج مكاني يبدأ من الأقرب فالأبعد، فقسم هذا الباب إلى أربعة فصول، تناول في الفصل الأول صلات البصرة التجارية مع المدن والحواضر والأقاليم المجاورة، مثل بغداد ومدن العراق الأخرى، والمراكز التجارية في الخليج العربي، والجزيرة العربية، حيث كان للبصرة دورا رئيسيا في تنظيم وتنسيق التجارة الداخلية والخارجية، لهذه المناطق من خلال مرفئها العظيم، وصلاتها الواسعة بمراكز التجارة العالمية.

     أما الفصل الثاني فقد بحثت فيه صلات البصرة التجارية مع الأقاليم الإسلامية البعيدة، وهي بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس، وكانت للبصرة صلات قوية ومتميزة مع هذه الجهات خاصة مع مدن الشمال الإفريقي، القيروان وتونس وموانئ الساحل التونسي، وتاهرت وسجلماسة، وكان لعلاقات البصرة السياسية والاجتماعية مع هذه الحواضر أثره الواضح في تقوية وتعزيز الصلات التجارية خلال القرنيين الثاني والثالث للهجرة.

     وخصص الفصل الثالث لعلاقات البصرة خارج العالم الإسلامي بمصادر التجارة الشرقية، وهو المصطلح الذي يطلق عادة على تجارة مناطق الشرق النائية، الهند والصين وشرق أفريقيا، حيث قامت على منتجات هذه البلدان تجارة عالمية واسعة ومهمة في العصر الوسيط. وقد حفلت المصادر الجغرافية والتاريخية بمعلومات غزيرة وقيمة عن صلات أهل البصرة بهذه المناطق، حتى وصفت البصرة بأنها مستودع تجارات الشرق.

      وفي الفصل الرابع والأخير، أوضح الباحث العوامل والأسباب التي أدت إلى تراجع دور البصرة التجاري، وضمور أهميتها الاقتصادية ابتداء من أواخر القرن الثالث حتى مطلع القرن الرابع الهجري، وهي أسباب عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أهمها كانت تلك الضربات الموجعة التي تلقتها البصرة على أيدي الزنج والقرامطة، واضطراب الأوضاع السياسية بعد سيطرة الترك على الخلافة، وانحلال وحدة الدولة بعد استقلال الكثير من الولايات البعيدة عنها، وانعكاسات تلك الظروف على مسارات التجارة العالمية التي بدأت  طرقها تتحول عن الخليج العربي باتجاه البحر الأحمر، وغير ذلك من الأسباب.

   وقد تضمنت فصول هذه الاطروحة عرضاً لأهم النتائج التي توصل إليها الباحث من خلال دراسته للموضوع، كما احتوت على عدد من المخططات والخرائط للمواقع والطرق، وعلى نماذج من سفن التجارة البصرية وطرق صناعتها.